التربوي والمفكر سيرة ومسيرة
رغم ما في “السيرة والمسيرة” من تنوّع، ليس عسيرا على المدقِّق الحصيف الوقوعُ على شاغل مركزيّ يخترق قسميْها الكبيريْن فتنشدّ إليه اهتمامات مصدّق الجليدي..أقرأ المزيد
Livraison en 1-4 jours
رغم ما في “السيرة والمسيرة” من تنوّع، ليس عسيرا على المدقِّق الحصيف الوقوعُ على شاغل مركزيّ يخترق قسميْها الكبيريْن فتنشدّ إليه اهتمامات مصدّق الجليدي الكثيرة. وهو شاغل ما بعد (وربّما ما قبل أيضا) التعليميّ تحصيلا وتدريسا، وما بعد البحثيّ إنجازا ونشرا، وما بعد الفضاء المدنيّ والسياسيّ انخراطا ونشاطا. وأظنّ أنّ عبارة الالتزام كفيلة بوَسْمِ هذا الشاغل بأهمّ ما يختصّ به. فليس من المبالغة القول إنّ هذا الكتاب ينقل في جميع أطوار رحلة الجليدي دلائل على عقود أبْرَمها الكاتب مع نفسه ومع جيله ومع ثقافته.
والراجح عندنا أنّ السؤال الدائرَ على شروط قيام حالة إبداعيّة إسلاميّة هو الذي قضى بأنْ يُلزمَ مصدّق الجليدي نفسَه بالانخراط في حَمْلِ أثقاله وتبعاته واستكشاف الآفاق بحثا عن تأمين إجابة غير تقليديّة. وبهذا، يُتيحُ لنا كتاب “سيرة ومسيرة” استخلاصَ نتيجة كبرى مفادُها أنّ إنتاجات الجليدي الكثيرة كأنّما فرضها ذاك السؤال القديم المتجدّد، السؤال الباحث عن السّبل الضامنةِ إدراجَ العرب والمسلمين في الزمن الحديث. كان سؤالا مُرْبِكا على امتداد قرنيْن من الزمان تقريبا. ونظنّ أنّ هذه الغزارة في إنتاج الجليدي مأتاها وعيُه العميق بالمآزق التي تفتّتتْ داخلها أطروحاتٌ ومقاربات ومشاريع غير قليلة في النهضة والتحديث. والغزارة التي تُميّزُ قَلم الجليدي وفكرَه ليست إذنْ مِنَ الكمّ الذي يتكدّسُ بعضُه فوق بعضِ. إنّها علامة على سعي لا يهدأ ورغبة في مجاراة سيولة ذاك السؤال ومحاصرته، وطلبٌ دؤوبٌ للأجوبة الممكنة وتجريبٌ للمستحصَلِ منها على قطاعات مهمّة من حضارة الإسلام. فقضايا التجديد المتردّد صداها بقوّة في هذا الكتاب سواء تعلّقت بالفقه أو بالمدرسة أو بالقيم عامّة متناغمة ومتساندة.
قد يرى قارئٌ أنّ الهمّ التربويّ كان الأكثر حضورا. والحقيقةُ ألاّ عيبَ في ذلك، فالجليدي ليس فقط ذاك المعلّم المتدرّج في السلّم الوظيفيّ، إنّه “معلّم” أيضا بالمعنى الذي يُطلَقُ على كبار المتفلسفين في مسائل محدّدة. وتقتضي الموضوعيّة القولَ إنّ مقاربة الجليدي في هذا المجال ليست تقنية خالصة، وليست استعراضيّة سرديّة أيضا. إنّها تنهض على رؤية وموقف والتزام مثلما بيّنّا. وهذا ممّا نَعُدُّه من مواطن القوّة في كتاباته وأنشطته في الشأن العامّ. وكَمْ وجدناه يُحيل في هذا الكتاب على اشتباكات أكاديميّة مع أطروحات لا يراها قادرة على إنتاج ما أسميناه الحالة الإبداعيّة. وكم ساقتْه تلك الاشتباكات إلى الخروج منها بتصوّرات واقتراحات تَجنّد للدفاع عنها في هدوء ورصانة وموضوعيّة. وهذا النزوع القويّ نحو إنشاء معالم مشروع تنويريّ إسلاميّ أصيل، رغم أنّه يتقاسم همومه مع لفيف من المفكّرين، كان يُبدي في أكثر من مناسبة إشارات إلى أنّه مستقلّ الرأي يملك من مهارات التفكير ما يجعله على مسافة نقديّة منهم. وقَفْنا على شيء من ذلك في المناظرات التي دارت بين أبي يعرب المرزوقي وحسن حنفي مثلا، أو بين أبي يعرب وطه عبد الرحمان. كان يُرجّح ويوازن ويفسّر فيُرجِعُ أسباب الخلاف/الاختلاف إلى جذوره العميقة، فتَفهَمُ أنّ الرجل من طينة من يحيا معهم أوجاع السؤال وبشائر ولادة الجواب.